فصل: تفسير الآية رقم (114)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

فيه إضمار ومعناه أفمن كان على بينة كمن ليس على بينة *** لا يستويان‏.‏

والبيِّنَةُ لأقوامٍ برهانُ العِلْمِ، ولآخرين بيانُ الأمر بالقطع والجزم؛ يُشْهِدهم الحقُّ ما لا يطلع عليه غيرهم، كما قلت‏:‏

ليلى من وجهك شمس الضحا *** ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏

فالناس في الظلمة من ليلهم *** ونحن من وجهك في الضوء والشاهد

فالذي يتولاه فهو مشاهِدٌ، وفي الخبر «أولياءُ الله الذين إذا أرادوا ذكر الله‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏»

قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نَشَآء لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 30‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً‏}‏‏.‏

مَنْ ادَّعى على الله حالاً لم يكن متحققاً بها فقد افترى على الله كذباً، واستوجب المقت، وعقوبته ألاَّ يُرْزَق بركةً في أحواله، ثم إنه يكشف للشهداء عيوبَه، يفضحه بين الخْلق، والشهداءُ قلوبُ الأولياء، ومَنْ شهدت القلوبُ عليه بالردِّ فهو غيرُ مقبولٍ عند الحقِّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

هذا من جملة صفات المفترين على الله الكذب، ومِنْ صدِّهم عن السبيل أن يُظهِروا من أنفسهم أحوالاً تُخِلُّ بأحكام الشريعة، ولا يَرَوْن ذلك كبيرةً في الطريقة، ويُوهمون المُسْتَضْعفين من أهل الاعتراض عليهم أنَّ لهم في ذلك رخصة، فَيضِلُّون وُيُضِلُّون‏.‏ ومن جملة صدَّهم عن السبيل تغريرهم بالناس، وإيقاعهم في الغَلَطِ، ويرتقون بشيءٍ مما في أيديهم من حطام الدنيا، ولا يَسْتَحُون منْ أَخْذِ شيءٍ لا يستوجبونه بأي وجه حقِّ، ويُدَاهِنُون في دين الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

مَنْ هذه صفتهم لا يربحون في تجارتهم، ولا يلحقون غايةً طلبوها؛ فيبقون عن الحق، ولا يبارك لهم فيما اعتاضوا من صحبة الخْلق‏.‏ خَسِرتْ صفْقتُهُمْ، وبَارَتْ بضاعتُهم، لَقُوا الهوان، وذاقوا اليأس والحرمان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

لا محالةَ أنهم في الآخرة أشدُّ خسراناً، وأوفر- من الخيرات- نقصاناً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا‏}‏‏.‏

الإخباتُ التخشع لله بالقلب بدوام الانكسار، ومن علامته الذبول تحت جريان المقادير بدوام الاستغاثة بالسر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ *** وَالبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

مثل الكافر في كفره كالأعمى والأصم، ومَثْلُ المؤمن في إيمانه كالسميع والبصير- هذا بيان التفسير‏.‏

والإشارة فيه أن الأعمى مَنْ عَمِيَ عن الإبصار بِسرِّه، والأصمُّ الذي طَرِش بسَمْع قلبه؛ فلا باستدلاله شَهِدَ سر تقديره في أفعاله، ولا بنور فراسةٍ توهم ما وقف عليه من مكاشفات الغيب لقلبه، ولا بسَمْع القبولِ استجابَ لدواعي الشريعة، ولا بِحُكْم الإنصاف انْقَادَ لما يتوجَّب عليه من مطالبات الوقت مما يلوح لِسرِّه من تلويحات الحقيقة‏.‏

وأما البصير فهو الذي يشهد من الحق أفعاله بعلم اليقين، ويشهد صفاته بعين اليقين، ويشهد ذاته بحق اليقين، والغائبات له حضور، والمستورات له كشف‏.‏ فالذي يسمع فَصِفَتُه ألا يسمعَ هواجسَ النَّفْس ولا وساوس الشيطان؛ فيسمع من جواعي العلم شرعاً، ثم من خواطر التعريف قدراً، ثم يكاشف بخطاب من الحق سِرَّا‏.‏

فهؤلاء لا يستويان، ولا في طريق يلتقيان‏:‏

راحَتْ مُشَرِّقةً ورُحْتُ مُغَرباً *** فمتى التقاءُ مُشَرِّقٍ ومُغَرِّبِ‏؟‏‏!‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 26‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏25‏)‏ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينُ لاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ‏}‏‏.‏

كان نوحٌ عليه السلام أطولَ الأنبياء عُمْراً وأشدَّهم بلاءً، وسمي نوحاً لكثرة نَوْحِه على نَفْسِه‏.‏ *** وسببُ ذلك أنه مرَّ بكلبٍ فقال‏:‏ ما أقبحه‏!‏ فأوحى الله إليه أَنْ اخلقْ أنت أَحْسَنَ من هذا‏.‏ فأخذ يبكي وينوح على نفسه كلَّ ذلك النَّوْح‏.‏ فكيف بحالِ مَنْ لم يذكر يوماً مما مضى من عمره في مدة تكليفه- ولم يحصل منه لله كثير من ولاية‏!‏‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

أنكروا صحة كوْنهِ نبيَّا لمشاكلته إياهم في الصورة، ولم يعلموا أن المباينة بالسريرة لا بالصورة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْي‏}‏‏:‏ نظروا إلى أتباعه نَظْرَةَ استصغارٍ، ونَسَبُوهم إلى قِلَّةِ التحصيل *** وما استصغر أحدٌ أحداً من حيث رؤية الفضل عليه إِلا سَلَّطَ اللَّهُ عليه، وأذاقه ذُلَّ صَغَارِه، فبالمعاني يحصل الامتيازُ لا بالمباني‏:‏

ترى الرجلَ النحيف فتزدريه *** وفي أثوابه أسد هصور

فإن أَكُ في شِراركم قليلاً *** فإني في خِياركم كثير

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

الصُّبحُ لا خَلَلَ في ضيائه لِكَوْن الناظرين عمياناً، والسيفُ لا خَلَلَ في مُضَائِه لِكَوْنِ الضاربين صبياناً‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ *** وكيف لِبَشَرٍ من قدرةٍ على هداية مَنْ أَضَلَّه اللَّهُ- ولو كان نبيَّا‏؟‏

هيهات لا ينفع مع الجاهل نُصحٌ، ولا ينجح في المُصِرِّ وعظٌ‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

سُنَّة الأنبياء- عليهم السلام_ ألا يطلبوا على رسالتهم أجراً، وأَلاَّ يُؤَمِّلُوا لأنفسهم عند الخْلق قَدْراً، عَمَلُهُم لله لا يطلبون شيئاً من غير الله‏.‏ فَمَنْ سَلكَ من العلماء سبيلَهم حُشِرَ في زمرتهم، ومَنْ أَخَذَ على صلاحِه مِنْ أحدٍ عِوَضَاً، أو اكتسب بسداده جاهاً لم يَرَ من الله إلا هواناً وصَغَاراً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

مجالسةُ الفقراءِ اليومَ- وهم جَُلساءُ الحقِّ غداً- أجدى من مجالسة قومٍ من الأغنياء هم من أهل الردِّ‏.‏

ومَنْ طَرَدَ مَنْ قَرَّبَه الله وأدناه استوجب الخِزْيَ في دنياه، والصَّغَارَ في عقباه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلآَ أَقُولُ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلآَ أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلآَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ‏}‏‏.‏

لا أتخطَّى خَطِّي عما أبلغ مما حملتُ من رسالتي، ولا اتعدَّى ما كُلِّفْتُ به، ولا أزيد عما أُمِرْتُ، ولن أخرجَ عن الذي أنبأوني، بل أنتصب بشاهدي فيما أقاموني‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلآ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرَاً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

إن أولياء الله سبحانه في أثوابهم ولا يراهم إلا من قرَبَهم في معناهم‏.‏ اللَّهُ أعلمً بأحوالهم وفي الجملة‏:‏ طيرُ السماءِ على أُلاَّفها تقع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

أوضح لهم من البراهين مالوا أنعموا النظر فيه لتمَّ لهم اليقين، ولكنهم أصروا على الجحود، ولم يقنعوا من الموعود بغير المشهود‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

أقَرَّ بالعبودية، وتَبرَّأ عن الحول والقوة، وأحال الأمرَ على المشيئة‏.‏ ولقد أنصف مَنْ لم يُجَاوِزْ حَدَّه في الدعوى‏.‏ والأنبياء عليهم السلام- وإن كانوا أصحاب التحدي للناس بمعجزاتهم فهم معترفون بأنهم موقوفون عند حدودهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

مَنْ لم يُساعده تعريفُ الحقِّ- بما له بحكم العناية- لم ينفعه نُصْحُ الخَلْقِ في النهاية‏.‏

ويقال مَنْ لم يُوَصِّلْه الحقُّ للوصال في آزله لم ينفعه نُصْحُ الخَلْقِ في حاله‏.‏

ويقال مَنْ سَبَقَ الحُكْمُ له بالضلالة أَنَّى ينفعه النصحُ وبَسْطُ الدلالة‏؟‏

ويقال من لم تساعدْه قسمةُ السوابق لم ينفعه نُصْحُ الخلائق‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ‏}‏‏:‏ من المحال اجتماع الهداية والغواية؛ فإذا أراد اللَهُ بقوم الغواية لم يصح أن يقال إنهم من أهل الهداية‏.‏

ثم بيَّن المعنى في ذلك بأن قال‏:‏ ‏{‏هُوَ رَبَّكُمْ‏}‏ لِيَعْلَم العالِمون أَنَّ الربَّ تعالى له أن يفعل بعباده ما شاء بحكم الربوبية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

ومهما وصفتموني فإني أُجِيبُ اللّهَ *** وكُلٌّ مُطَالَبٌ بفعله دون فِعْلِ صاحبِه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

عرَّفه الحقُّ أنَّه غنيٌّ عن إيمانهم، فكَشَفَ له أحكامَهم، وأَنَّ مَنْ لم يؤمن منهم قد سبق الحكمُ بشقائهم، فعند ذلك دعا لعيهم نوحٌ- عليه السلام- بالإهلاك‏.‏

ويقال لم يدعُ عليهم ما دام للمطمع في إيمانهم مساغٌ، فلما حََصَل العكسُ نطق بالتماس هلاكهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

أي قُمْ- بشرط العبودية- بصنع السفينة بأمرنا، وتحقق بشهودنا، وأنَّك بمرأىً منا‏.‏ ومَنْ عَلِمَ اطلاَعه عليه يلاحِظْ نَفْسَه ولا غيرَه، لا سيما وقد تحقق بأنَّ المُجْرِي هو سبحانه‏.‏

وقال له‏:‏ راعِ حَدَّ الأدَبِ، فما لم يكن لك إذْنٌ منا في الشفاعة لأحدٍ فلا تُخاطِبْنا فيهم‏.‏

ويقال سبق لهم الحكمُ بالغَرَقِ- وأمواج بحر التقدير تتلاطم- فكلُّ في بحار القدرة مُغْرَقُون إلا من أهَّلَه الحقُّ بِحُكْمِه فَحَمَلَه في سفينة العناية‏.‏

ويقال كان قومُ نوحٍ من الغَرْقَى في بحار القَطْرِة، ومِنْ قبلُ كانوا غرقى في بحار القدرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

لما تَحقَّق بما أمر اللَّهُ به لم يأْبَه عند إمضاءِ ما كُلِّفَ به بما سَمِعَ من القيل، ونظر إلى الموعود بطَرْفِ التصديق فكان كالمُشاهِد له قبلَ الوجود‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏39‏)‏‏}‏

لا طاعةَ لمخلوقٍ في مقاساة تقديره- سبحانه- إلا من تحمل عنه بفضله ما يحمله بحُكْمه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ‏}‏‏.‏

طال انتظارُهم لِمَا كان يَتَوَعَّدُهم به نوحٌ عليه السلام على وجه الاستبعاد، ولم يَزِدْهُم تطاولُ الأيامٍ إلا كفراً؛ وصَمَّمُوا على عقد تكذيبهم‏.‏

ثم لمَّا أتاهم الموعودُ إياهم بغتةً، وظهر من الوضع الذي لم يُحِبُّوه فآرَ الماءُ من التنور المسجور، وجادت السماءُ بالمطر المعبور‏.‏

‏{‏قُلْنَا احْمِل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَينِ‏}‏‏:‏ استبقاءً للتناسل‏.‏

ويقال‏:‏ قد يؤْتَى الحَذِرُ من مَأْمَنِه؛ فإن إبليسَ جاء إلى نوح- عليه السلام-‏.‏

وقال‏:‏ احْمِلني في السفينة فأَبَى نوحٌ عليه السلام، فقال له إبليس‏:‏ أَمَا عَلِمْتَ أَني من المُنْظَرين إلى يوم معلومٍ، ولا مكانَ لي اليومَ إلا في سفينتك‏؟‏

فأوحى الله إلى نوح أن يَحْمِلَه معه‏.‏

ويقال لم يكن لابن نوح معه مكان، وأُمِرَ بِحَمْل إبليس وهو أصعب الأعداء‏!‏ وفي هذا إشارة إلى أن أسرار التقدير لا تجري على قياس الخَلْق؛ كأنه قيل له‏:‏ يا نوح *** ابنك لا تحمله، وعدوك فَأدْخُلْه، فالله سبحانه فعَّالٌ لما يريد‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيهِ الْقَوْلُ وَمَنْ ءَامَنَ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُ إلاَّ قَلِيلٌ‏}‏‏.‏

‏{‏إلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيهِ الْقَوْلُ‏}‏ بالشقاوة‏.‏ وفيه تعريف بأن حُكْمَ الأَزَل لا يُرَدُّ، والحقُّ-سبحانه- لا يُنَازَعُ، والجبَّارُ لا يُخَاصَمُ، وأن مَنْ أقصاه ربُّه لم يُدْنِه تنبيهٌ ولا بِرٌّ ولا وعظ‏.‏

‏{‏وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قِلِيلٌ‏}‏ ولكن بَارَكَ الحقُّ- سبحانه- في الذين نجَّاهم من نَسْلِه، ولم يدخل خَللٌ في الكونِ بعد هلاكِ مَنْ أَهْلَك مِنْ قومه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏41‏)‏‏}‏

عَرَفَ أَنَّ نجاتَه من القَطْرةِ لمَّا تقَاطرَتْ ليست بالحِيَلِ- وإنْ تَنوّعَتْ وكَثُرَتْ، فباسم اللّهِ سلامتُه، وبتوكلِه على الله نجاتُه وراحتُه، وبتفضله- سبحانه- صلاحُه وعافيته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

وكان في معزل بظاهره، وكان في سرِّ تقديره أيضاً بمعزلٍ عما سبق لنوح وقومه ما سابق فضله‏.‏ فحينما نطق بِلسانِ الشفقةِ وقال‏:‏ ‏{‏يَآبُنَيَ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ‏}‏- لم يقل له‏:‏ ولا تكن من الكافرين؛ لأن حالته كانت مُلْتَبِسةُ على نوح إذ كان ابنُه ينافقه- فقيل له‏:‏ يا نوح إنه مع الكافرين لأنه في سابق حُكْمِنا من الكافرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

أَخْطأَ مِنْ وجهين‏:‏ رأى الهلاكَ من الماءِ وكان مِنَ اللَّهِ، ورأى النجاةَ والعِصمةَ من الجبل وهما من الله، فقال له نوح‏:‏ لا عاصِمَ اليومَ من أمرِ الله‏.‏ قيل أراد لا معصومَ اليوم من الله‏.‏ وقيل لا أحدَ يَعْصِم أحداً من أمر الله، لكنْ مَنْ رَحِمَه ربُّه فهو معصومٌ من ذلك، وله عاصمٌ وهو الله‏.‏

ولقد كان نوح- عليه السلام- مع ابنه في هذه المخاطبات فجاءت أمواجُ الماءِ وحالََتْ بينهما وصار من المُغْرَقِين، فلا وعظُه ونُصْحُه نفعاه، ولا قولُه وتذكيره نَجَّيَاه وخَلصَّاه‏.‏

ويقال احتمل أن لو قيل له نوح عرَّفْنَا العَالَم بدعائك ولا عليكَ إِنْ عَرَفَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

فلما غَرِقَ ابنُ نوح سَكَنَ الموجُ ونضَبَ الماءُ وأقلعت السماء، وكأنه كان المقصودُ من الطوفانِ أَنْ يغرِقَ ابن نوحٍ- عليه السلام- وقيل‏:‏

عَجِبْتُ لِسَعْيِ الدهرُ بيني وبينها *** فلما انقضى ما بيننا سَكَنَ الدهرُ

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 46‏]‏

‏{‏وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏45‏)‏ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

خَاطَبَ الحقَّ- سبحانه- في باب ابنْهِ، واستعطفَ في السؤال فقال‏:‏

و ‏{‏إِنَّ اْبنِي مِنْ أَهْلِي‏}‏‏:‏ فقال له‏:‏ إنَّه ليست مِنْ أهل الوصلة قِسْمَتُه- وإنْ كان من أَهْلِكَ نَسَباً ولْحُمَةً، وإنَّ خطابَك في بابه عملٌ غيرُ صالح، أو إنه أيضاً عَمِلَ غيرَ صالح‏.‏

‏{‏فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏}‏‏:‏ أي سَتَرْتُ غيبي في حال أوليائي وأعدائي، فلا يُعلَمُ سِرُّ تقديري‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنّي أَعِظُكَ‏}‏‏:‏ وذلك لحُرمِة شيخوخته وكِبَرِه، ولأنه لم يَسْتَجِبْ له في وَلَدِه، فتَدارَكَ بِحُسْنِ الخطابِ قَلْبَه‏.‏

وقل إن ابنَ نوح بَنَي من الزجاج بيتاً وقتَ اشتغال أبيه باتخاذ السفينة، فلما ركب نوحٌ السفينةَ دَخَلَ ابنُه في البيت الذي اتخذه من الزجاج، ثم إن الله تعالى سلَّطَ عليه البوْلَ حتى امتلأ بيْتُ الزجاج من بَوْلِه؛ فَغَرِق الكلُّ في ماء البحر، وغرق ابنُ نوحٍ في بَوْلِه‏!‏ ليُعلَمَ أنه لا مفرَّ مِنَ القَدَر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

نَسِيَ نوحٌ- عليه السلام- حديثَ ابنه في حديث نفسه، فاستعاذ بفضله واستجار بلطِفه، فوجد السلامةَ من ربِّه في قوله جل ذكره‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏48‏)‏‏}‏

طَهَّرَ وجهَ الأرضِ من أعدائه، وحفظ نوحاً عليه السلام من بلائه، هو ومن معه من أصدقائه وأقربائه‏.‏

والأممُ التي أخبر أنه سَيُمَتِّعُهم ثم يَمَسُّهم العذابُ هم الذين ليسوا من أهل السعادة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

أعلمناكَ بهذه الجملة، وأنبأناك بهذه القصص لما خصصناك من غير أن تتعلمَه من شخص، أو من قراءةِ كتاب؛ فإِنْ قابَلَكَ قومك بالتكذيب فاصبِرْ، فَعَنْ قريبٍ تنقلب هذه الأمور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

كَلَّفَ الأنبياء- عليهم السلام- بالذهاب إلى الخَلْق لا سيما وقد عاينوا- بالحق- مَنْ تَقَدَّمَهُم من فترة الملأ، ولكنهم تَحَمَّلُوا ذلك حين أَمَرهُم الحقُّ بالتوجُّهِ إليهم فَرَضُوا، وأظهروا الدلالةَ، وأَدَّوْا الرسالةَ، ولكن ما زاد الناسُ إلا نفرةً على نفرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

لم يأتِ نبيٌّ من الأنبياء- عليهم السلام- إلاَّ وأَخْبَرَ أنه ليس له أنْ يطلبَ في الجملة أجْرَاً من اللّهِ لا من غير الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

استغفروا ربكم ثم توبوا إليه بعد الاستغفار، مِنْ توهمكم أن نجاتَكم باستغفاركم‏.‏ بل تَحقَّقُوا بأنكم لا تجدون نجاتَكم إلا بفضلِ ربِّكم؛ فَبِفَضْلِه وبتوفيقه توصَّلْتُم إلى استغفاركم لا باستغفاركم، وصلتم إلى نجاتكم، وبرحمته أهَّلَكُم إلى استغفاركم، وإلاَّ لَمَا وصلتم إلى توبتكم ولا إلى استغفاركم‏.‏

والاستغفار قَرْع باب الرزق، فإذا رجع العبد إلى الله بحسن تضرعه، فتح عليه أبوابَ رحمته، وَيَّسرَ له أسبابَ نعمته‏.‏

ويقال يُنَزِّل على ظواهركم أمطارَ النِّعمة، وعلى ضمائرِكم وسرائركم يُنَزِّل أنواعَ المِنَّة، ويزيدكم قوة على قوة؛ قوة تحصلون بها توسعة أنواع الرِزْقِ، وقوةً تحصلون بها تحسين أصناف الخُلُقِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

ما زادهم هودُ عليه السلام بَسُطا في الآية وإيضاحاً في المعجزة إلا زادهم اللَّهِ تعالى عَمىً على عَمىً، ولم يرزقْهم بصيرةً ولا هديً، ولم يزيدوا في خطابِهم إلا بما دَلُّواعلى فَرِطِ جهالتهم، وشدة ضلالتهم بعد إطنابهم وأنتهابهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

وكيف ظَنُّوا أنَّ آلهتَهم تَمسُّ أعداءَهم بسوءٍ وهي تضرُّ أعداءها ولا تنفع أولياءَها‏؟‏ فهؤلاء الغوايةُ عليهم مُسْتَوْلية‏.‏ ثم إن هوداً عليه السلام أفْصَحَ عن فضل ربِّه عليه؛ وصَرَّحَ بإخلاصه وحُسْنِ يقينه فقال‏:‏ ‏{‏إنِىّ بَرِئ مِّمّا تُشرِكُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ ‏(‏55‏)‏‏}‏

فلم يَحْتَحْ معهم إلى تضرع واستخذاء، ولا راوَدُهم في سْلم واستمهال، ولم يَتَّصْفْ في ذلك بركونٍ إلى حَوْله ومُنَّته، ولم يستند إلى جٍِدِّه وقوَّته بل قال‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏56‏)‏‏}‏

أخبر أنه بموعودِ الله له بنُصْرتِه واثق، وأنه في خلوص طاعته لربّه وفي صفاء معرفته ‏(‏غيرُ مُفَارِقِ‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ‏(‏57‏)‏‏}‏

أوحينا إليه أنْ قُلْ لهم‏:‏ نْ تَوَلَّوْا ولم تُؤمنوا بي فقد بَلَّغْتُ ما حُمِّلت من رسالتي، وإني واثقٌ بأَنَّ الله إذا أهلككم يأتِ بأقوام آخرين سواكم أطْوعَ له منكم، وإنْ أفناكم ما اختلَّ مُلْكُه؛ إذْ الحقُّ- سبحانه- بوجود الأغيار لا يلحقه زيْنٌ- وإنْ وَحَّدُوا، وبفقدهم لا يَمُّسه شَيْنٌ- وإنْ جحدوا وألحدوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ‏(‏58‏)‏‏}‏

ولما جاء أمْرنا بإهلاكِهم نَجَّينَا هوداً والذين آمنوا برحمتنا، ولم يَقْلْ باستحقاقه النجاةَ بوسيلةِ نُبُوته، أو لجسامة طاعته ورسالته بل قال‏:‏ ‏{‏بِرَحْمَةٍ مِّنَّا‏}‏، ليَعْلَمَ الكافةُ أنَّ الأنبياء- عليهم السلام- ومَنْ دونَهم عتيقُ رحمته، وغريقُ مِنَّتِه، لا لاستحقاقِ أحدٍ ولا لواجب على الله في شيء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ‏(‏59‏)‏‏}‏

في إنزالِ قصصهم تسلية للرسول- صلى الله عليه وسلم وآله- فيما كان يقاسي من العناء، وللمؤمنين فيما بذلوا من حسن البلاء، والعِدَةُ بتبديل- ما كانوا يلقَوْنه من الشِدِّة- بالرجاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ‏(‏60‏)‏‏}‏

أخبر أنهم خسروا الدنيا والآخرة، أمَّا في هذه الدنيا فبالاستئصال بأليم الشدة وما تَبِعَه من اللَّعنة، ثم ما يلقونه في الآخرة من تأبيد العقوبة‏.‏ وبقاؤهم عن رحمة الله أصعبُ من صنوف كل تلك المحنة، كما قيل‏:‏

تَبَدَّلَتْ وتبدلنا واحسرتا *** لِمَنْ ابتغى عوضاً لِسَلْمى فَلَمْ يَجِد

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 68‏]‏

‏{‏وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ‏(‏61‏)‏ قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ‏(‏62‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ‏(‏63‏)‏ وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ‏(‏64‏)‏ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ‏(‏65‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ‏(‏66‏)‏ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏67‏)‏ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

عُقَيْبَ ما مضى من قصة عادٍ ذَكَرَ ثمود، وثمودهم قوم لصالح، وقد انخرطوا في الغيِّ في سِلْكِ مَنْ سَبَقَهم، فَلَحِقَتُ العقوبةُ بجميعهم‏.‏ ثم أخبر أنهم قابلوا نَبِيَّهم- عليه السلام- بالتكذيب، ولم يقفوا على ما نبَّههم عليه من التوبة والتصديق وأصَرُّوا على الإقرار أنهم في شأنه لفي شكٍ مريب‏.‏

ثم بيَّن أنَّ صالحاً لم يُعِرِّجْ- في التبليغ- على تقصير‏.‏

وبَعْدَ تَمَرُّدِهم وامتناعهم عن الإنابةِ، وإصرارهم على تَرْكِ الإجابة حقَّ عليهم ما توعدهم به من عذاب غير مكذوب، ونجَّى نبيَّهم- عليه السلام-، ونجَّى مَنْ اتَّبَعَه من كل عقوبة *** سُنَّةٌ منه- سبحانه- في إِنجاءِ أوليائه أمضاها، وعادةٌ في تلطفه ورحمته بالمستحقين أجراها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 70‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ‏(‏69‏)‏ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ‏(‏70‏)‏‏}‏

أخبر أن الملائكة أتوا إبراهيمَ- عليه السلام- بالبشارة‏.‏ وأخبر أن إبراهيمَ- عليه السلام- أنْكَرَهُم، ولم يَعْرِفْ أنهم ملائكةٌ‏.‏ فيُحتمل أنَّه- سبحانه- أراد أن تكونَ تلك البشارة فجأةً من غير تنبيهٍ لتكونَ أتَمَّ وأبلغَ في إيجاد السرور، ولا سيما وقد كانت بعد خوف لأنه قال‏:‏ ‏{‏فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً‏}‏‏.‏

ويقال إن إبراهيم- عليه السلام- كان صاحبَ النبوة والخُلَّة والرسالة فلا بُدَّ أن تكون فراستُه أعلى من فراسة كلِّ أحدٍ، ولكنه في هذه الحالة لم يَعْرِفْ الملائكةَ ليُعْلَمَ أنَّ الحقَّ- سبحانه وتعالى- إذا أراد إمضاءِ حُكْمِ يَسُدُّ على مَنْ أرادَ عيونَ الفراسة، وإنْ كان صاحبُ الفراسة هو خليل الله، كما سَدَّ الفراسة، على نبيِّنا- صلى الله عليه وسلم- في قصة الإفْكِ إلى الوقت الذي نزل فيه الوحيُ، وكذلك التبس على لوطٍ- عليه السلام- إلى أن تبيَّن له الأمر‏.‏

وتكلموا في هذه «البشرى» ما كانت؛ فقيل كانت البشارة بإسحاق‏؟‏ أنَّه سيولد له ولد ومن نَسْله وسُلالته؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِن وَرَآءِ إسْحَاقَ يَعْقُوبَ‏}‏‏.‏

ويقال بسلامة قومه- حيث كانوا مُرْسَلين بإهلاك قوم لوط- عليه السلام‏.‏

ويقال بشارة بالخُلَّة وتمام الوصلة‏.‏

ويقال إن الخُلَّة والمحبة بناؤهما كتمان السِّرِّ؛ فَيَعْلَمَ أنهم أُرْسِلُوا بشارةٍ ما ولم يكن للغير اطلاع، قال قائلهم‏:‏

بين المحبين قولٌ لست أفهمه *** ويقال إن تلك البشارة هي قولهم‏:‏ «سلاماً» وأن ذلك كان من الله، وأيُّ بشارة أتمُّ من سلام الحبيب‏؟‏ وأيُّ صباح يكون مُفْتَتَاً بسلام الحبيب فصَبَاحٌ مباركٌ، وكذلك المبيتُ بسلام الحبيب فهو مباركٌ‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 69‏]‏‏:‏ لمَّا توهمهم أضيافاً بحقَّ الضيافة، فقدَّم خَيْرَ ما عنده مما شكره الحقُّ عليه حيث قال في موضع آخر‏:‏ ‏{‏فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 26‏]‏‏.‏ والمحبةُ توجِبُ استكثارَ القليلِ من الحبيبِ واستقلالَ ما مِنْك للحبيب، وفي هذا إشارة إلى أنه إذا نَزَلَ الضيفُ فالواجبُ المبادرةُ إلى تقديم السُّفرة مِمَّا حضر في الوقت‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا رَءَآ أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إٍلَيْهِ نَكِرَهُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 70‏]‏ تمامُ إحسانِ الضيف أن تتناولَ يَدُه ما يُقَدَّم إليه من الطعام، والامتناعُ عن أكل ما يُقَدَّم إليه معدودٌ في جملة الجفاء في مذهب أهل الظَّرْف‏.‏ والأكل في الدعوة واجبٌ على أحد الوجهين‏.‏

‏{‏وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً‏}‏‏:‏ أي خاف أنه وقع له خَلَلٌ في حاله حيث امتنع الضِّيفانُ عن أكل طعامه؛ فأوجس الخيفةَ لهم لا منهم‏.‏

وقيل إن الملائكة في ذلك الوقت ما كانوا ينزلون جهراً إلا لعقوبة؛ فلمَّا امتنعوا عن الأكل، وعَلِمَ أنهم ملائكةٌ خَافَ أنْ يكونوا قد أُرْسِلُوا لعقوبة قومه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 73‏]‏

‏{‏وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ‏(‏71‏)‏ قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ‏(‏72‏)‏ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ‏(‏73‏)‏‏}‏

كانت امرأتُه قائمةً بخدمة الأضياف، فضحكت تعَجُّّباً من أن يكون لمثلها في هذه السن ولد‏.‏

وقيل كان سرورها السلامة‏.‏ ويحتمل أنه ضحكت تعجباً من امتناع الضيِّفان عن الأكل‏.‏ أو تَعَجبَتْ من كوْن الملائكة في صورة البشر لَمَّا عَلِمَتْ أنهم ملائكة ويحتمل أنها ضحكت لاستبشارها بالوَلَد وقد بُشِّرَتْ باستحقاقه ومن ورائه يعقوب، ثم أفصَحَتْ عما ينطوي عليه قلبُها من التعجب فقالت‏:‏ ‏{‏ءَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذا بَعْلِى شَيْخاً إنَّ هَذَا لَشَيءٌ عَجِيبٌ‏}‏ ‏!‏

فأحال الملائكة خَلْقَ الوَلَدِ على التقدير‏:‏ ‏{‏قَالُوا أَتَعْجِبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ‏}‏‏؟‏ فزال موضِعُ التعجب، وقالوا‏:‏ ‏{‏رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ‏}‏ فبقي الدعاء في شريعتنا بآخر الآية حيث يقول الداعي‏:‏ كما صَلَّيْتَ وباركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد‏.‏

والبركة الزيادة؛ فقد اتصل النَّسْلُ من الخليل، وبنو إسرائيل منهم- وهم خَلْقٌ كثير، والعرب من أولاد إسماعيل- وهم الجَمُّ الغفير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ‏(‏74‏)‏‏}‏

لما كانت مراجعته مع الله في أمر قوم لوطٍ بحقِّ الله لا لحظِّ نَفْسِه سَلِمَ له الجِدال، وهذا يدلُّ على علوِّ شأنه حيث تجاوزَ عنه ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ‏(‏75‏)‏‏}‏

والإشارة فيه أنه كان يقَابِل ما وَرَدَ على ماله ونفْسِه وولده بالاحتمال، ولمَّا كان حقُّ الحقِّ في حديثِ قوم لوط أخَذَ في الجِدالِ إلى أن أبَانَ له سلامةَ لوط- عليه السلام-‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ‏(‏76‏)‏‏}‏

يا إبراهيم أعْرِضْ عن هذا فإنَّ الحُكْمَ بعذابِهم قد نَزَل، ووقتُ الانتقامِ منهم قد حصل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ‏(‏77‏)‏‏}‏

أي أنه حزن بسبب خوفه عليهم أن يَجْريَ عليهم من قومه ما لا يجوز في دين الله؛ فذلك الحزنُ كان لحقِّ الله لا لنصيبٍ له أو حظَّ لنفسه، ولذلك حُمِدَ عليه لأنَّ مقاساةَ الحزنِ لحقِّ الله محمودةٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ‏(‏78‏)‏‏}‏

قوله ‏{‏هَؤُلآءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ‏}‏‏:‏ قيل إنه أراد به نساء أمته، فنبيُّ كلِّ أمةٍ مثل الوالد لأولاده في الشفقة والنصيحة‏.‏

ويقال إنه أراد بناتِه منْ صُلْبِه‏.‏

«أليس منكم رجل رشيد» يرتدي جلبابَ الحشمة، ويؤثِر حقَّ الله على ما هو مقتضى البشرية، ويرعى حق الضيافة، ويترك معصية الله‏؟‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ‏(‏79‏)‏‏}‏

أصرُّوا على عصيانهم، وزهدوا في المأذون لهم شرعاً، وانجرُّوا إلى ما قادهم إليه الهوى طبعاً، وهذه صفة البهائم؛ لا يَرْدَعُها عقلٌ، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ كَاْلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 179‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ‏(‏80‏)‏‏}‏

لو أن لي قوةً فأمنعكم عن ارتكابِ المعصية؛ فإنَّ أهمَّ الأشياء على الأولياء ألا يَجْرِيَ من العصاةِ ما ليس الله فيه لا رضاء‏.‏

ويقال‏:‏ لو كان لي قدرةٌ لإيصال الرحمةِ إليكم- مع ارتكابكم المعاصي- لَرَحِمْتُكم وتجاوزتُ عنكم‏.‏

ويقال لو أنَّ لي قوةً لهَدَيْتُكم إلى الدِّين، ولَعَصَمْتُكم عن ارتكاب المخالفات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ‏(‏81‏)‏‏}‏

لمَّا ضَاقَ به الأمُر كَشَف اللَّهُ عنه الضُرَّ فَعَرَّفَ إليه الملائكةُ وقالوا‏:‏ لا عليكَ فإنهم لا يصلون إليكَ بسوءٍ وإنَّا رُسُلُ ربك جئنا لإهلاكهم، فاخرُجْ أنت وقومُك من بينهم، واعلمْ أنَّ مَنْ شَارَكَهم في عملهم بنوعٍ فَلَهُ مِنْ العذابِ حِصَّة‏.‏ ومن جملتهم امرأتك التي كانت تدل القوم على المَلَكِ لفعلة الفاحشة، وإن العقوبة لاحقةٌ بها، مُدْرِكَة لها‏.‏

والإشارة منه أن الجسارةَ على الزَّلّةِ وخيمةُ العاقبةِ- ولو بعد حين، ولا ينفع المرءَ اتصالُه بالأنبياء والأولياءِ إذا كان في الحكم والقضاء من جملة الأشقياء‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ألَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ‏}‏‏.‏

ما هو كائِنٌ فقريبٌ، والبعيدُ ما لا يكون‏.‏ وإنَّ مَنْ أقْدَمَ على محظورٍ ثم حُوسِبَ عليه- ولو بعد دهورٍ خالية وأعوام غير محصورة ماضية- تصور له الحال كأنه وقتُ مَبَاشَرَتِه لتلك الزَّلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ‏(‏82‏)‏‏}‏

سُنَّةُ الله في عباده قلبُ الأحوال عليهم، والانقلابُ مِنْ سِمَاتِ الحدوث، أمّا الذي لا يزول ولا يحول فهو الذي لم يزل ولا يزال بنعوته الصمدية‏.‏

وإنَّ مَنْ عاش في السرور دهراً ثم تبدل يُسْرُه عُسْراً فَكَمَنْ لم يَرَ قطُّ خيراً، والذي قاسَى طولَ عمره ثم أُعطِي يُسْراً فكمن لم يَرَ عُسْراً‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 110‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ‏(‏83‏)‏‏}‏

ذكر سبحانه ما نالهم من العقوبة على عصيانهم، ثم أخبر أنَّ تلك العقوبةَ لاحقةٌ بمن سَلَكَ سبيلَهم تحذيراَ لمن لم يعتبر بهم إذا عرف طريقَهم، كما قيل‏:‏

ومَنْ يَرَني ولم يعتبر بَعْدِي *** فإنًّ لكلِّ معصيةٍ عقابا

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 85‏]‏

‏{‏وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ‏(‏84‏)‏ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

أخبر سبحانه عن قصتهم، وما أصابهم من العذاب الأليم، وما نالهم من البلاء العظيم‏.‏

وفي الظاهر لهم كانت أجرامُهم كاليسيرة، ولعدم الفهم يعدون أمثالها صغيرة، ولا يقولون إنها كبيرة، وإن ذلك تطفيف في المكيال‏.‏

وليس قَدْرُ الأَجرام لأعيانها، ولكن لمخالفة الجبارِ عَظُمَ شأنُها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَحْسَبُونَهُ هِيِْناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 15‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ‏(‏86‏)‏‏}‏

يعني القليل من الحلالِ أجدى من الكثير المُعْقِب للوَبالِ لم يقابلوا نصيحَته لهم إلا بالعِناد والتمادي فيما هو دائمٌ من الجحد والكنود‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ‏(‏87‏)‏‏}‏

استوطؤوا مركب الجهل، واستحلبوا مشْربَ التقليد، وأعْفُوا قلوبَهم من استعمال الفكرِ، واستبصارِ طريقِ الرُّشدِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ‏(‏88‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قَالَ يَاقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً‏}‏‏.‏

البَيِّنَةُ نورٌ تَسْتَبْصٍرُ به ما خَفِيَ عليك تحت غطاء الغفلة‏.‏

والرزق الحسن ما به دوام الاستقلال، وما ذلك إلا مقتضى عنايته الأزلية، وحُسْنُ توليه لشأنك- في جميع ما فيه صلاحك- من إتمام النعمة ودوام العصمة‏.‏

وقيل الرزق الحسنُ ما تعنَّي صاحبُه لِطَلبِه، ولم يصبْه نَصَبٌ بسببه‏.‏

وقيل الرزق الحَسَنُ ما يستوفيه بشهود الرزق ويحفظه عند التنعم بوجود الرَّزَّاق‏.‏

ويقال الرزق الحسن ما لا يُنْسِي الرزَّاق، ويحمل صاحبَه على التوسعة والإنفاق‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ‏}‏‏.‏

يمكن للواعظ أو الناصح أنْ يساهِل المأمورَ في كل ما يأمره به، ولكن يجب ألا يجيز له ما ينهاه عنه؛ فإنَّ الإتيانَ بجميع الطاعات غير مُمْكن، ولكنَّ التجرُّد عن جميع المحرَّمات واجبٌ‏.‏

ويقال مَنْ لم يكنْ له حُكْمٌ على نفسه في المنع عن الهوى لم يكن له حُكْمٌ على غيره فيما يرشده إليه من الهدى‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنّ أُرِيدُ إلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اْسْتَطَعْتُ‏}‏‏.‏

مَدَارُ الأمر إلى الأغراض المقضية حُسْنُ القصد بالإصلاح، فيَقْرِنُ اللَّهُ به حسن التيسير، ومَنْ انطوى على قصدٍ بالسوء وَكَلَ الحقُّ بشأنه التعويق‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَا تَوْفِيقِي إلاَّ بِاللَّهِ‏}‏‏.‏

حقيقةُ التوفيق ما ينفق به الشيء، وفي الشريعة التوفيق ما تنفق به الطاعة، وهو قدرة الطاعة، ثم كل ما تقرب العبد به من الطاعة من توفير الدواعي وفنون المَنْهيات يُعدُّ من جملة التوفيق- على التوسُّع‏.‏

والتوفيق بالله ومن اللهِ، وهو- سبحانه- بإعطائه متفضِّلٌ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏‏.‏

التوكل تفويض الأمر إلى الله، وأمارته تركُ التدبير بشهود التقدير، والثقة بالموعود عند عدم الموجود‏.‏ ويتبين ذلك بانتفاء الاضطراب عند عدم الأسباب‏.‏

ويقال التوكلُ السكون، والثقةُ بالمضمون‏.‏

ويقال التوكل سكون القلب بمضمون الرَّبّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ‏(‏89‏)‏‏}‏

تورثكم مُخالَفَتُكم إياي فيما أدعوكم إليه من طاعةِ اللَّهِ أَنْ يلحقكم من أليم العقوبة ما أصاب مَنْ تقدَّمكم من الذين سِرْتُم على منهاجهم، وما عهدُكم ببعيد بمن تحققتم كيف حَلَّتْ بهم العقوبة، وكيف أنهم ما زادتْهم كثرةُ النصحيةِ إلاَّ غُلُوَّا في ضلالتهم، وعُتُوَّا في جهالتهم، وكما قيل‏.‏

وكمْ صُغْتُ في آثاركم من نصيحةٍ *** وقد يستفيد البغضةَ المُتَنَصِّحُ

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ‏(‏90‏)‏‏}‏

الاستغفار هو التوبة‏.‏

ومعنى قوله ‏{‏ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ‏}‏ أي توبوا ثم لا تُنْقِصُوا توبتَكم؛ فهو أمرٌ باستدامة التوبة؛ فإذا لم يتصل وفاءُ المآلِ بصفاءِ الحال لم يحصل قَبُولٌ، وكأن لم يكن لِمَا سَلَفَ حصولٌ‏.‏

‏{‏إنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ‏}‏‏:‏ يرحم العصاةَ ويودُّهم‏.‏

ويقال يرحمهم ولذلك يودونه؛ فالودود يكون بمعنى المودود كَحلُوب بمعنى محلوب‏.‏ والرحمة تكون للعاصي لأنَّ المطيعَ بوصف استحقاقه للثواب على طاعاته، ثم ليس كلُّ من يُحِبُّ السلطانَ في محلّ الأكابر، فالأصاغِرُ من الجُنْدِ قد يحبون المَلِكَ، وأنشدوا‏:‏

ألا رُبَّ مَنْ يدنو ويزعم أنه *** يودُّك، والنّائي أودُّ وأقربُ

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ‏(‏91‏)‏‏}‏

لاحظوا شعيباً بعين الاستصغار فَحُرِمُوا فَهْمَ معاني الخطاب، وأقَرُّوا على أنفسِهم بالجهل، وأحالوا إعفاءًهم إياه من الأذى على حشمتهم من رهطه وعشيرته، فعاتَبهُم عليه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ‏(‏92‏)‏‏}‏

أترون مِنْ حقّ رهطي ما لا تَرَوْنَ من حقّ ربي؛ وإنَّ ربي يُكافئكم على أعمالكم بما تستوجبون في جميع أحوالكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏93- 95‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ‏(‏93‏)‏ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏94‏)‏ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ‏(‏95‏)‏‏}‏

أرخى لهم ستر الإمهال فلمَّأ أصَرُّوا على تماديهم في الغواية حلَّت بهم العقوبة، وصاروا وكأن لم يكن بينهم نافخ نارٍ، ولا في ديارٍ الظالمين ديَّار، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاْعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 2‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏96- 98‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏96‏)‏ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ‏(‏97‏)‏ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ‏(‏98‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ‏}‏‏.‏

كَرَّر قصة موسى عليه السلام تفخيماً لشأنه، وتعظيماً لأمره، وتنبيهاً على علوِّ قدره عند الله وعلى مكانة الآيات التي أرسله بها، ومعجزاته الباهرة، وبراهينه القاهرة‏.‏

ويقال أصعبُ عدوِّ قَهَرَهُ أولا نَفْسُه، وقد دَله- سبحانه- على ذلك لمَّا قال‏:‏ إلهي‏!‏ كيف أطلبك‏؟‏

فقال‏:‏ عند المنكسرةِ قلوبهُم من أجلي‏.‏

فَنَبَّهَه إلى استصغارِه لنفسه، وانكساره لله بقلبه، فزادت صولتُه لما صار معصوماً عن شهود فضل لنفسه؛ والسلطانُ الذي خصَّه به استولى على قلوبِ مَن رآه، كما قال‏:‏ ‏{‏وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنّي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 39‏]‏ فما رآه احدٌ إلا أحَبَّه، ثم إنه لم يأخذه في الله ضعفٌ، مثلما لَطَمَ وجهَ فرعون- وهو رضيع- كما في القصة، ولَطَمَ وجهَ مَلَكِ الموت لمّا طالبه بقبض روحه‏.‏ *** كما في الخبر، «وأخذ برأس أخيه يجرُّه إليه لمّا رجع من سماع الخطاب عند المعاتبة، وأقدم بالجسارة على سؤال الرؤية، وقتل القبطيَّ لما استعان به مَنْ وافقه في العقيدة، وقال الله ‏{‏إِنْ هِىَ إلاَّ فِتْنَتُكَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 155‏]‏ لمَّا أخبره الحق بما عمله قومه من عبادة العجل بحكم الضلالة *** ففي جميع هذا تَجَاوَزَ اللّهُ عنه لمَا أعطاه من السلطان والقوة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَاتَّبِعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ الْنَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ‏}‏‏.‏

رضوا بمتابعة فرعون، فاستحقوا ما استحقه‏.‏ لم بشعروا بخطئِهم، وكانوا يحسبون أنهم يُحْسَنون صُنْعاً‏.‏ وإذا ما أوردهم النارَ فهو إمامُهم، وسيعلمون ما أصابهم من الخسران حين لا ينفع تضرعُهم وبكاؤُهم ولا ينقطع عذابُهم وعناؤهم، وتغلب خسارتهم وشقاؤهم- وذلك جزاءُ مَنْ كَفَرَ بمعبوده، وأسرف في مجاوزة حدوده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ‏(‏99‏)‏‏}‏

بَعُدُوا في عاجلهم من الإيمان، وفي آجلهم من الغفران والجِنان والذي لهم في الحال من الفُرقة أعظمُ- في التحقيق- من الذي لهم في المآلِ من الحُرقَة، وهذه صفةُ مَنْ امتحنه اللَّهُ باللعنة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ‏(‏100‏)‏‏}‏

لمن يكن في جملة مَنْ قصَّ عليه مِنَ الأنبياء عليهم السلام مَنْ أكثر منه

تبجيلا، ولا فيمن ذكره من الأمم أعظم من أمته تفضيلاً، فكما تَقَدَّم على الأنبياء

عليهم السلام تقدَّمَتْ أمتُه على الأمم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 11‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ‏(‏101‏)‏‏}‏

لا يجوز الظلمُ في وصفه؛ فَتَصرُّفُه في مُلْكه بحقِّ إلهيته- مطلقٌ؛ يحكم بحسب إرادته ومشيئته، ولا يتوجه حقٌّ عليه، فكيف يجوز الظلمُ في وصفه‏؟‏

ويقال هذا الخطاب لو كان من مخلوقٍ مع مخلوق لأشبه العذر، ولكن في صفته لا يجوز العذر إذ الخلقُ خلقُه، والمُلْكُ مُلْكُه، والحُكْمُ حُكْمُه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ‏(‏102‏)‏‏}‏

إنَّ الحقَّ- سبحانه- يمهل ولكن لا يهمل، ويحكم ولكن لا يعجّل، وهو لا يُسأل عمَّا يفعل‏.‏

وقيل إذا أخذ النفوسَ بالتوفيق فلا سبيل للخذلان إليها، وإذا أخذ القلوبَ بالتحقيق فلا طريق للحرمان عليها‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّ بَطْشَ ربِّكَ لَشَدِيدٌ‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 12‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ‏(‏103‏)‏‏}‏

مشهودٌ يشهدِه مَنْ حُشِرَ من جميع الخلائق في ذلك اليوم‏.‏

ويقال الأيام ثلاثة‏:‏ يومٌ مفقود وهو أمسِ ليس بيدك منه شيء، ويومٌ مقصود وهو غدٌ لا تدري أتدركه أم لا، ويومٌ مشهودٌ وهو اليوم الذي أنت فيه؛ فالمفقودُ لا يرجع، والمقصود ربما لا تبلغ، والمشهود وقتك وهو مُعَرَّضٌ للزوال *** فاستغله فيما ينفع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ ‏(‏104‏)‏‏}‏

الأَجَلُ لا يَتَقَدَّم ولا يتأخر لكل ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، والآجالُ على ما عَلِمها الحقُّ- سبحانه- وأرادها جاريةٌ؛ فلا طلبٌ يُقَدَّمُ أو يؤخر وقتاً إذا جاء أجلُه، وكذلك للوصول وقت، فلا طلب مع رجاء الوصول، ولا طلب مع خوف الزوال، ولقد قيل‏:‏

عيبُ السلامةِ أنَّ صاحبَها *** متوقِّعٌ لقواصم الظَّهرِ

وفضيلةُ البلوى ترقبُ أهلِها *** عَقِبَ البلاء- مَسَرَّةَ الدهر

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ‏(‏105‏)‏‏}‏

الشقيُّ من قُسِم له الحرمانُ في حاله، والسعيد مَنْ رُزِق الإيمان في مآله‏.‏

ويقال الشقاء على قسمين‏:‏ قومٌ شقاؤهم غير مؤيد، وقومٌ شقاؤهم على التأييد وكذلك القول في السعادة‏.‏ الشقيُّ مَنْ هو في أَسْرِ التدبير ونسيان جريان التقدير، واسعيد مَنْ رَجِعَ من ظلماتِ التدبير، وحصل على وصف شهود التقدير‏.‏

ويقال الشقيُّ من كان في رق العبودية ظانَّا أَنَّ منه طاعاته، السعيد مَنْ تحرر عن رقِّ البشرية وعَلِمَ أن الحادثاتِ كلها لله سبحانه‏.‏

وأمَّا الأشقياء- على التأبيد- فهم أهل الخلود في مقتضى الوعيد، والسعداء- على التأبيد- من قال الله تعالى في صفتهم‏:‏ ‏{‏لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَأ مَزِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 35‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏106- 107‏]‏

‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ‏(‏106‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ‏(‏107‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ‏}‏‏.‏

‏{‏إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ‏}‏ أن يزيد على مُدَّةِ السموات والأرضِ‏.‏

‏{‏إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ‏}‏ أن ينقلهم إلى نوعٍ آخر من العذاب غير الزفير والشهيق‏.‏

‏{‏إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ‏}‏ ألا تلحقهم تلك العقوبة قبل أَنْ يُدْخِلَهم النار؛ فلا استثناء لبعض أوقاتهِم من العقوبة لا قَبْلَ إدخالهم فيها ولا بعده‏.‏

‏{‏إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ‏}‏ من إخراج أهل التوحيد من النار فيكون شقاؤهم غير مؤبَّد‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ‏}‏‏.‏

فيه إشارة إلى أن الذي يحصل بمشيئته لا باستحقاق عمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ‏(‏108‏)‏‏}‏

لهم اليوم جناب القُربة، ولهم غداً جناب المثوبة‏.‏ والكفار اليوم في عقوبة الفرقة، وغداً في عقوبة الحرقة‏.‏

‏{‏فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ‏}‏ فلا استثناء لبعض أوقات أهل الجنة من أول أمرهم قبل دخولهم الجنة أو بعده‏.‏ أو يحتمل أنه يزيد على مدة السموات والأرض‏.‏

وفي قوله ‏{‏عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ‏}‏- أي عطاءً غير مقطوع- دليلٌ على أن تلك النعم غير مقطوعة ولا ممنوعة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ ‏(‏109‏)‏‏}‏

لا يريد أنَّه عليه السلام في شَكٍ، ولكنه أراد به تحقيق كونهم مُضَاهين لآبائهم، كما تقول‏:‏ لا شكَّ أنَّ هذا نهارٌ‏.‏

ويقال الخطابُ له والمرادُ به لأُمَّتِه‏.‏

‏{‏وَإنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ‏}‏‏:‏ تجازيهم على الخبر بخير وعلى الشر بضُر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ‏(‏110‏)‏‏}‏

اختلفوا في الكتاب الذي أوتي، وهو التوراة‏.‏

واختلفوا في كونه رسولاً، فمِنْ مُصَدِّقٍ ومِنْ مْكذِّب‏.‏

ثم أخبر أنه- سبحانه- حَكَمَ بتأخير العقوبة، ولولا حكمته لعجَّل لهم العقوبة‏.‏

وفائدةُ الآية من هذا التعريفِ التخفيفِ على المصطفى- صلى الله عليه وسلم- فيما كان يلقاه من قومه من التكذيب، ففي سماع قصة الأشكال- وبعضُهم من بعض- سلوة، ولقد قيل‏:‏

أجارتَنا إنَّا غريبان ها هنا *** وكلُّ غريبٍ للغريب نسيب

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏111‏)‏‏}‏

أعاد ذكر الجزاء على الأعمال بالثواب والعقاب، وكرَّر ذلك في القرآن في كثير من المواضع إبلاغاً في التحذير، وتنبيهاً على طريق الاعتبار بحسن التفكير‏.‏

ثم إن الجزاءً على الأعمال معجَّلٌ ومؤجَّل، وكلُّ مَنْ أعرض عن الغفلة وجَنَحَ إلى وصف التيقظ وَجَدَ في معاملاته- عاجلاً- الربحَ لا الخُسران، وآجلاً الزيادةَ لا النقصان، وما يجده المرءُ في نفسه أتمُّ مما يدركه بعلمه بشواهد برهانه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

‏{‏فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏112‏)‏‏}‏

يحتمل أن تكون السين في الاستقامة سين الطلب؛ أي سَلْ من الله الإقامة لَكَ على الحقّ‏.‏

ويحتمل أن تكون الإقامة في الأمر بمعنى أقام عليه‏.‏

وحقيقة الاستقامة على الطاعة المداومة على القيام بحقِّها من غير إخلالٍ بها، فلا يكون في سلوك نهج الوِفاقِ انحرافٌ عنه‏.‏

ويقال المستقيمُ مَنْ لا ينصرف عن طريقه، يواصل سيره بمسراه، وورعه بتقواه ويتابع في ترك هواه‏.‏

ويقال استقامة النفوس في نفي الزَّلَّة، واستقامة القلوب في نفي الغفلة، واستقامة الأرواح بنفي العلاقة، واستقامة الأسرار بنفي الملاحظة‏.‏

استقامة العابدين ألا يدخروا نفوسَهم عن العبادة وألا يُخِلُّوا بأدائها، ويقضون عسيرَها ويسيرَها‏.‏ واستقامة الزاهدين ألا يرجوا من دنياهم قليلها ولا كثيرها‏.‏ واستقامة التائبين ألا يُلِمُّوا بعقوة زلة فَيَدَعْونَ صغيرَها وكبيرَها *** وعلى هذا النحو استقامة كلِّ أحدٍ‏.‏ قوله ‏{‏وَمَن تَابَ مَعَكَ‏}‏‏:‏ أي فَلْيَستَقِمْ أيضاً مَنْ معك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏113‏]‏

‏{‏وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ‏(‏113‏)‏‏}‏

لا تعملوا أعمالَهم، ولا ترضوا بأعمالِهم، ولا تمدحوهم على أعمالهم، ولا تتركوا الأمرَ بالمعروف لهم، ولا تأخذوا شيئاً من حرام أموالهم، ولا تساكنوهم بقلوبكم، ولا تخالطوهم، ولا تعاشروهم *** كل هذا يحتمله الأمرُ، ويدخل تحت الخطاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏114‏]‏

‏{‏وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ‏(‏114‏)‏‏}‏

أي اسْتَغْرِقْ جميعَ الأوقاتِ بالعبادات، فإنَّ إخلالَكِ لحظةً من الزمان بِفَرَضٍ تؤديه، أو نَفْلِ تأتيه حَسْرَةٌ عظيمةٌ وخُسرَانٌ مبينٌ‏.‏

قوله ‏{‏إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ الْسَّيِئَاتِ‏}‏ الحسنات ما يجود بها الحق، والسيئات ما يذنبها العبد، فإذا دخلت حسناتُه على قبائح العبد مَحَتْها وأَبْطَلَتْها‏.‏

ويقال حسناتُ القُربة تَذْهَبُ بسيئات الزَّلَّة‏.‏

ويقال حسناتُ الندم تَذْهَبُ بسيئات الجُرْم‏.‏

ويقال ‏(‏انسكاب‏)‏ العَبْرَةَ تُذْهِبَ سيئاتِ العَثْرَة‏.‏

ويقال حسنات الاستغفار تُذْهِبُ سيئات العصيان‏.‏

ويقال حسنات الاستغفار تُذْهِبُ سئيات الإصرار‏.‏

ويقال حسناتُ العناية تذهب سيئات الجناية‏.‏

ويقال حسنات العفو عن الإخوان تذْهِبُ الحقدَ عليهم‏.‏

ويقال حسنات الكَرَمَ تُذْهِب سيئات الخَدَم‏.‏

ويقال حسنُ الظنِّ يُذْهَبُ سوأتهم بكم‏.‏

ويقال حسنات الفضل من الله تُذْهِبُ سيئاتِ حسبان الطاعة من أنفسكم‏.‏

ويقال حسناتُ الصدق تَذْهَبُ بسيئات الإعجاب‏.‏

ويقال حسناتُ الإخلاص تَذْهَبُ بسيئات الرياء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏115‏]‏

‏{‏وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏115‏)‏‏}‏

الصبر تجرُّع كاساتِ التقدير من غر تعبيس‏.‏

ويقال الصبرُ حَسْنُ الإقبال على معانقة الأمر ومفارقة الزجر‏.‏

‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ المحسنُ‏:‏ العاملُ الذي يعلم أَنَّ الأجرَ على الصبر والطاعة بفضله- سبحانه- لا باستحقاق عملٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏116‏]‏

‏{‏فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ‏(‏116‏)‏‏}‏

معناه لم يكن فيكم مِنْ هؤلاء الذين كانوا ينهون عن القبائح إلا قليل‏.‏

وقيل معناه لم يكن فيمن قبلكم من الأمم مَنْ يَنْهى عن الفساد، ويحفظ الدِّين، ويطيعون أنبياءَهم- إلا قليل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏117‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ‏(‏117‏)‏‏}‏

اي لم يُهلِكْ اللَّهُ أحداً مصلحاً وإنما هلك مَنْ كان ظالماً‏.‏

ويقال معناه‏:‏ لو أهلك الله أهلَ القرى وهم مصلحون لم يكن ذلك ظلماً من الله؛ لأن المُلكَ مُلكُه، والخلْقَ عبيدُه‏.‏

ويقال‏:‏ «المصلح» من قام بحقِّ ربِّه دون طلب حظِّه‏.‏

ويقال‏:‏ «المصلح» من آثر نجاته على هلاكه‏.‏

ويقال مصلحٌ تُصلِحُ نَفْسَه طاعتُه، ومصلحٌ تصْلِحٌ قلبَه معرفةُ سَيِّدِه‏.‏ ومصلح تُصْلِحُ سِرَّه مشاهدةُ سيِّدِه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏118- 119‏]‏

‏{‏وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ‏(‏118‏)‏ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏119‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ‏}‏‏.‏

لو شاء لَجَعلهم أربابَ الوفاق ثم لا يوجبون لمُلْكِه زَينْاً، ولو شاء لجعلهم أرباب الخلافِ ثم لا يوجِبُون لمُلْكِه شَيْنا‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ‏}‏ لأنه كذلك أراد بهم‏.‏

‏{‏إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 119‏]‏ في سباق حكمه فعصمهم عن الخلاف في حاصل أمورهم، وأقامهم به، ونصبهم له، وأثبتهم في الوفاق والمحبة والتوحيد‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وتمت كملةُ ربك لأملأن جهنم من الجِنَّةِ والناسِ أجمعين‏}‏‏.‏

أي لا تبديل لقوله، ولا تحويل لحُكْمه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏120- 120‏]‏

‏{‏وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏120‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ‏}‏‏.‏

سكَّنَ قلبه بما قصَّ عليه من أنباء المرسلين، وعرَّفه أنه لم يُرَقِّ أحداً إلى المحلِّ الذي رقّاه إليه، ولم يُنْعِمْ على أحد بمثل ما أنعم عليه‏.‏

ويقال قَصَّ عليه قِصَصَ الجميع، ولم يذكر قصَته لأحد تعريفاً له وتخصيصاً‏.‏ ويقال لم يكن ثباتُ قلبه بما قصَّ عليه ولكن لاستقلال قلبه بِمَنْ كان يقص عليه، وفَرْقٌ بين من يقعل بما يسمع وبين مَنْ يَستقل بِمَنْ منه يسمع، وأنشدوا‏:‏

وَحَدَّثَتَنِي يا سَعْدُ عنها فَزْدْتَنِي *** حَنِيناً فَزِدْنِي مِنْ حديثِكَ يا سعدُ

تفسير الآيات رقم ‏[‏121- 122‏]‏

‏{‏وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ ‏(‏121‏)‏ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

إن الذين يجحدون التوحيد، ويؤثِرون على الحقِّ غيرَ الحق، ولم يُصَدِّقوا الوعيد، يوشِكُ أَنْ يَنْصَبّ عليهم الانتقامُ فيغرقون في بحار العقوبة، ويسقطون في وهاد الهوان، فلا لويلهم انتهاءٌ، ولا لِذُلِّهم انقضاءٌ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏123- 123‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

عمَّى عن قلوبهم العواقبَ، وأخفى دونهم السوابق، وألزمهم القيامَ بما كَلَّفهم في الحال، فقال‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ‏}‏ فإنْ تقسَّمَ القلبُ وتَرَجَّمَ الظَنُّ وخيف سوءُ العاقبة‏.‏‏.‏ فتوكَّلْ عليه أي اسْتَدْفِعْ البلاَءَ عنك بِحُسْنِ الظَّنِّ، وجميل الأمل، ودوام الرجاء‏.‏

‏{‏وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏‏:‏ أحاط بكل شيءٍ عِلْماً، وأمضى في كل أمرٍ حُكْماً‏.‏